Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدبتاريخرأي

طرف من السيرة العطرة للسلطان المسلم أورنجزيب عالمكير

حاتم السروي – كاتب مصري

نحن الآن في الهند، شبه القارة التي جمعت العالم بين حدودها، في البلاد التي خدم أهلها من المسلمين الدين الحنيف وكانوا له أنصارًا، إنها بلاد هندستان بطبيعتها الخلابة وآثارها الجميلة.

ولنرحل معًا إلى ماضٍ عريق ومجد حُقَّ لمسلمي الهند أن يفتخروا به، إلى إمبراطورية المغول المسلمين في الهند، لنشاهد رجلاً عظيمًا جمع مفاخر النبلاء ومآثر العظماء؛ فكان رحمه الله عالمًا زاهدًا، حاكمًا عادلًا، ومجاهدًا صادقًا، وكان فقيهًا متعبدًا، وأديبًا شاعرًا وقائدًا منتصرا، كما أنه من أهل الفن حيث أجاد الخط.
أورنجزيب عالمكير رجل عبقري دونما شك، وهو تاج على رؤوس حكام المسلمين في الهند التي حكمها حوالي خمسين سنة، أقام فيها العدل، وقهر المتجبرين، وترك آثارًا على الأرض وفي العقول والقلوب.

أورنجزيب الذي ملأ الهند بالمساجد والمدارس والبيمارستانات (المشافي)، وملاجئ العجزة، ونظم القضاء وأصلح قوانين الضرائب وترك للعلماء كتابا من أهم كتب الفقه الإسلامي. إنه الملك العادل وبقية الخلفاء الراشدين عالمكير أورنجزيب ابن شاهجان بن جهانكير ابن الإمبراطور أكبر حفيد تيمور لنك.

نسبه وولادته:

هو أبو المظفر محي الدين محمد أورنجزيب عالمكير بن شاه جهان بن جهانكير ابن شاه أكبر بن أبي النصر محمد همايون، حفيد تيمور لنك. وأمه هي أرجمند بانو بنت آصف جاه، المعروفة باسم ممتاز محل، صاحبة مقبرة تاج محل.

ولد ليلة الأحد الخامس عشر من ذي القعدة سنة 1028هـ ، الموافق 24 من أكتوبر 1619م، في قرية دوحد في كوجرات بالهند، وفي عهد جده جهانكير الذي معنى اسمه آخذ الدنيا أو مالكها، وقد حكم منذ 1014هـ – 1037هـ / 1605م – 1627م).
نشأته:

نشأ رحمه الله في مهد المجد والعز والسلطنة؛ فأبوه هو سلطان الهند شاه جيهان (ومعناه ملك الدنيا، حكم من 1037هـ – 1627م / 1061هـ / 1657م) أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين في الهند، والذي اشتهر في العالم كله، بأنَّه هو الذي أمر ببناء واحد من أكثر الأبنية جمالًا في العالم، وهو تاج محل؛ تخليدًا لذكرى زوجته (ممتاز محل)، التي ملكت عليه قلبه وحياته، حتى ماتت سنة 1631م، فرثاها بهذا البناء الخالد الذي يعتبر حتى الآن من عجائب الدنيا السبع، وقد لبث اثنان وعشرون ألفًا من العمال اثنين وعشرين عامًا مسخّرين في بناء هذا التاج، وبرغم أن المرمر جاء إلى “شاه جهان” هدية من “مهراجا جايبور”، فقد كلَّف البناء وما حوله ما يعادل في يومنا هذا مائتين وثلاثين مليون دولار أمريكي، وهو في ذلك العهد مبلغ ضخم جدًا من المال، وهذا لأن السلطان شاهجيهان قضى آخر أيامه لا يفعل شيئًا غير أن يجتر ذكرياته مع حبيبته ممتاز!.

في ساحة العلم والفقه:
نشأ أورنجزيب نشأةً إسلامية متدينة وعلمية أيضًا، فهو سليل لبيت علم وأدب ودين، وقد تكفَّل بتربيته والاعتناء به كبار علماء عصره، ومنهم الشيخ محمد معصوم ابن الشيخ أحمد السرهندي رحمهما الله، ولم يكن أورنجزيب كبير إخوته، ولا كان وليًّا للعهد، ولا دار في ذهن أحد أنه سوف يلي الملك يومًا ما، لكن الشيخ معصوم وضع في تربيته جهدًا كبيرا وبذل كل رعايته، فنشأ كأنه طالب في مدرسة دينية داخلية بين المشايخ والمدرسين.

ونجده قد قرأ القرآن وجوَّده، ودرس الفقه الحنفي وبرع فيه، وتعلم الخط وأتقنه، وألمَّ بعلوم عصره، وتربى مع هذا كله على الفروسية وضروب القتال، ولما مات جهانكير وولي ابنه شاه جهان ولَّى كل من أبنائه الأربعة قطرا من أقطار الهند، وكان نصيب أورنجزيب هو (الدكن) فباشرها أفضل مباشرة.

كما قرأ أورانجزيب العلم على مولانا عبد اللطيف السلطانبوري ومولانا محمد هاشم الكيلاني، والشيخ محي الدين بن عبد الله البهاري، وعلى غيرهم من علماء الهند، وأخذ خط النسخ عن الحاج القاسم، وعن السيد علي بن محمد مقيم وكانا ماهران في الخط، حتى كتب خط المنسوب، وصار مضرب المثل في جودة وحسن الخط، وبرع في كثير من العلوم والفنون.

وقد ظهرت على أورنجزيب علامات النبوغ والقوة والفروسية والشجاعة منذ طفولته، ففي كتاب نزهة الخواطر نقرأ ما يلي: “أن والده شاه جهان كان يومًا يتفرج في البرج المشرف على نهر جمن على مصارعة الأفيال، التي كانت في ساحة القلعة فيما بينها وبين النهر، والأفواج كانت قائمة بين ظهرانيها وخلق كثير يتفرجون عليها في تلك الساحة، وكان عالمكير أيضًا في ذلك الزحام وهو يومئذ في الرابعة عشر من عمره، وكان على جواده، فإذا هو بفيلة قد ثارت وقصدت الأفواج، ففر الناس كلهم من بين يديها إلا عالمكير، فإنه ثبت على مقامه فتوجهت إليه الفيلة ولفت فرسه بخرطومها، وطاح عالمكير من على صهوة الفرس، ثم قام وسل السيف عليها ثم جاء الناس ودفعوها بالضرب والطعن وإيقاد النار وغير ذلك، وهذه مفخرة عظيمة في الثبات والعزيمة لا تجدها لغيره من أبناء الملوك في تلك السن”.

أورنجزيب عالمكير .. الملك الصالح
ظل السلطان شاه جهان والد عالمكير مفتونا بفقيدته وجنَّ جنونه بضريح تاج محل حيث رفات معشوقته، وقضى السنوات الطويلة والأموال الهائلة في بناء مرقدها الفاخر، وانصرف بذلك عن تدبير أمور المملكة، فاضطربت أحوال البلاد والعباد. وكان أورنجزيب عالمكير الأخ الرابع بين إخوته، وهم دارا شكوه وشجاع ومراد بخش (مراد الله)، وكان شجاع قد تولي إمارة البنغال، وتولى مراد بخش إمارة الكوجرات، إضافة إلى تولى أورنجزيب إمارة الدكن.

وكان شاهجيهان قد عزم على بناء قصر مُواجهٍ لتاج محل ليكون ضريحًا له شخصيًّا ومقابلًا لضريح زوجته، ولكن مع وجود فارق وهو أن ضريح تاج محل من الرخام الأبيض، أما ضريحه هو فسيكون باللون الأسود، بحيث يربط بينهما جسر كبير، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يتحقق هذا الحلم بسبب انقلاب الابن الأكبر دارا شكوه عليه واعتقاله سنة 1067 هـ / 1657م، فبسط يده على البلاد وصار هو السلطان.
فلم يرض إخوته بذلك، ونهض كلٌّ منهم من إمارته باتجاه أخيهم دارا شكوه، كالتالي: شجاع من البنغال، ومراد بخش من الكوجرات، أورنجزيب من الدكن، ودارت معارك شديدة بينهم، انتهت بانتصار أورنجزيب على إخوته، ثم قتلهم لأمور صدرت منهم وكان مضطرًا حيث عُرِفَ عنه كره الدماء وإيثاره للصلح بين الإخوة، وقد أفتى العلماء بأن ثلاثتهم قد استوجبوا القتل، وحبس عالمكير والده في قلعة أكبر آباد، وهيَّأ له ما لذَّ وطاب من طعامٍ وشراب، وجعل في خدمته الجواري والغلمان، وظل شاه جيهان في محبسه ثمانية أعوام حتى وفاته سنة 1076هـ / 1666م، وكان يعزي شاه جهان وقوفه أمام مرآة وضعها له أحد المهندسين في أحد الأعمدة تعكس صورة الضريح الذي يبعد عدة أميال عن سجنه، فيرى الضريح وكأنه أمامه.

وبذلك يكون أورنجزيب قد جلس على سرير الملك سنة 1068هـ / 1657م، وكان وقتها في الأربعين من عمره، وبذلك صفا له الجو، وكأنما ساقته العناية الإلهية ليكون حاكما جليلا ينفع الناس، ويصبح على مر التاريخ قدوة حسنة للحاكم المسلم، والملك الذي يعتز المسلمون به وبذكراه الطيبة، وذلك بعيدًا عما صاحب اعتلاءه العرش من سفك للدماء.

ويكاد يجمع المؤرخون على أن أورنجزيب هو أعظم ملوك المغول المسلمين بإطلاق، إذ بلغت الدولة الإسلامية في عهده ذروة لم تبلغها قبله أو بعده، وقد حكم خمسين عامًا تقريبًا، وهي فترة طويلة لم تَخْلُ من الحروب والمتاعب، بل إنه كثيرًا ما كان على رأس جيشه، يباشِر تأديب أعدائه بنفسه، ويضمُّ ممالكَ جديدةً ليوسع بها رُقعة مملكته، حتى إنه لم يَعرِف طعم الراحة والإقامة الهنية في عاصمة مُلْكِه.

وقال عنه أبو الفضل المرادي الحسيني صاحب سلك الدرر واصفا حاله: “سلطان الهند في عصرنا، وأمير المؤمنين وإمامهم، وركن المسلمين ونظامهم، المجاهد في سبيل الله، العالم العلامة الصوفي العارف بالله، الملك القائم بنصرة الدين، الذي أباد الكفار في أرضه، وقهرهم وهدم كنائسهم وأضعف شركهم، وأيّد الإسلام، وأعلى في الهند مناره، وجعل كلمة الله هي العليا”.

ولقد شهدت إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند في عهده أقصى امتداد لها وذلك بفضل جهوده العسكرية، ولم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع له، بل قد اتسع سلطانه أيضًا ليشمل الهند وآسام وأراكان في بورما، وكذلك أفغانستان، وكانت تلك هي الذروة التي وصل إليها المغول؛ فكان بهذا امتداد دولة الهند في عهده من سفوح الهمالايا في الشمال إلى شواطئ البحر في الجنوب.

غير أنه نشبت في عهده مجموعة من الثورات والحروب، منها ثورة (الراجبوت) فقد نقضوا عهدهم، وامتنعوا عن دفع الجزية، فأرسل لهم الملك أورنجزيب ابنه محمد أكبر، فقضى على ثورتهم عام 1090هـ، كما تمرَّد المراهتا على أورنجزيب، وهم جماعة من الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي لهم تقاليدهم الخاصَّة، وقد سكنوا شمال بومباي وجنوبها، وكان أميرهم “سيفاجي” أو سيواجي كما ينطق أحيانًا، يتحيَّن فُرَصَ ضعف الدولة المغولية أو انشغالها بحربها مع الدُّول أو الثورات الأخرى، وهذا حتى يُعْلِنَ العصيان على الدولة، فصَكَّ النقود باسمه، بل هاجم قوافل الحجاج في مدينة “سورت”، وكان الحُجَّاج يُبحِرُون منها للحجاز قبل ميناء بومباي، وظلَّ ثائرًا محارِبًا للمغول حتى طلب العفو، فعفا عنه محمد أكبر، وأقطعه بعض الأراضي في برار، وظلَّ أورنجزيب رحمه الله معنيًّا بالمراهتا حتى انتهى من أمرهم تمامًا عام 1116هـ / 1705م.

أما الشيعة الصفويون فقد استطاع أن يستولي على مملكتهم في كولكندة، وخاصة بعد أن تعاونوا مع الثائرين ضده بالمال والسلاح، ولم يوفوا بتعهداتهم بدفع الجزية وبعدم سب الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك سنة 1098هـ / 1687م.

وهكذا قضى هذا الإمبراطور المكافح عمره مجاهدًا، يتخذ من ميادين القتال سكنه ومستقره الدائم، وكأنما خلق لحياة النضال وليس لحياة القصور، وما فيها من المتعة والمتاع، وحتى وهو في التسعين من عمره ظل يحارب، ومات في ميدان القتال القتال بعيدا عن عاصمة ملكه دلهي.

وكان عالمكير ينظر في شئون الرعية من أدنى بلاده إلى أقصاها بعين الصقر؛ فقضى على الفساد ، ثم أخد بالإصلاح فأزال ما كان باقيا من الزندقة التي جاء بها والد جده جلال الدين أكبر الذي انخترع ديناً يجمع فيه بين الإسلام والهندوسية ويأمر الناس بالسجود له، وكانت الضرائب الظالمة ترهق الناس فأبطل منها ثمانين نوعا، وسن للضرائب سنة عادلة وأوجبها على الجميعبمن فيهم هو نفسه، وأصلح الطرق القديمة، وشق أخرى جديدة، وبنى المساجد في أقطار الهند، وأقام لها الأئمة والمدرسين، وأسس دورا للعجزة، ومارستانات للمجانين، ومستشفيات للمرضى.

وأقام العدل للناس جميعا فلا يعلو على القضاء رجل، وكان أول من جعل للقضاء قانونًا، وكان يحكم في القضاء بنفسه لا حكماًا بحسب الهوى وإنما بالمذهب الحنفي وله علة وعليه دليل، وكانت له امتيازات فألغاها، وجعل نفسه تابعًا للمحاكم العادية، وأصبح يمكن لمن له عليه له حق أن يقاضيه به أمام القاضي مع السوقة والسواد من الناس.

وما زال المسلمون ينظرون إلى أروانك زيب نظرتهم إلى أولياء الله الصالحين، ولم تستقر هذه الفكرة في أذهانهم على مر القرون عبثا، فإن ما عرف عنه من الدين والورع والتمسك بتعاليم الشريعة يرتفع به إلى هذا المقام ولا شك فرحمه الله رحمة واسعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى