Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدب

المدينة تتحدث

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي, الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها,  جامعة عالية ،كولكاتا -الهند

كنت أمس في البيت، لم أخرج إلى المكتب، وكان جديرا بأن يشغلني عن التفكير كل ما سعمت عن الأحداث الجارية في دلهي. فتحت الحاسوب إذ وجدت الكثير من الأخبار المؤسفة، وفي خلال تصفح الشبكات والقنوات، ظهرت على الشاشة صورة امرأة حزينة باكية، فأغلقت تلك القناة، وإذا صورة تتكرر، وصوت يتردد “أيها الرجل اسمع” فأصغيت إلى هذا الصوت وفتحت الصورة، فرأيت عجبا.

وإذا صوت أجهر وأوضح من قبل، “اسمع أيها الرجل” وهنالك وقفت أشاهد الصورة واستمتع لهذا الصوت. 

فإذا الصورة تقول:  أنا مدينة دلهي…عاصمة الهند، أمري لله، والحب عذاب، 

ولعمري!أحب أبنائي كل من أنجبتهم وكل من آوى إلى حضني، والله أحبهم الكثير، وخفضت جناحي لمن اتبعني وأغمرتهم في الحب والحنان.  

إنني لا أشكو إليك بثي وحزني وأناجيك بأحلام النفس الإنسانية، وإنك لتجيبني الجواب الصامت فتطرح الراحة في قلبي آخذ من بعضها قولا وأرجع إليك يعضها قولا، غير أنني أحس أنه ينير في حلك الظلمة التي فصلت بيني وبين أيام ولدت فيها. 

ولا تسألني يا سيدي عن كل ما رأيت في ليلة 23 من فبراير، أسود الليل رأيت في حياتي. رأيت أن أبنائييقتلون إخوانهم باسم الدين، وانا تقر به عيني آذان المساجد وتبعث في السرور أصوات جرس المعابد، لقد أنجبت أبناء وأعطت لهم الحرية والخيار في ممارسة الأديان حسب رغباتهم ومعتقداتهم، ولا أميز بينهم على أساس الأديان والمعتقدات، وهم أبناء لي سواسية عندي كالعين، ولكن ثلاثة أيام من أيام الله مضت على احتراق البيوت، وخربان المساجد وقتل الناس. 

فقلت لها: 

أيتها دلهي الحبيبة! 

كأنك قطعة من السماء هاربة في الأرض، قد هُدِّمت مرات كثيرة، ثم أعيد إليك أبناؤك الرونق والبهاء، وأنت تتكون من مدن عدة منتشرة في العاصمة، لذلك يطلق عليك أحياناً اسم مدينة المدن “دلهي” وتمتاز بكثرة عدد السياح الذين يأتون إليك للتمتع بجمالك الطبيعي والتاريخي.

فقطعت كلامي وقالت:

 لعلك ترغب في قصتي، وها أنا ذا أقص عليك خبري، وما جري في هذه البلاد بين سعمي وبصري.

كنت قرية من البنجاب فجعلني ملوك الإسلام من أعظم مدن العالم. وانا هنا منذ أكثر من عشرة قرون، أشاهد تقلبات الزمان وتحول الملك والسلطان، كأني أنا قطب يدور حولي رحى الحوادث والهند تسير مع سيري وتتوقف عندما أتوقف عن السير، كأني أنا قلب الهند، رأيت في هذه المدة من العجائب ما أضحكني قليلا، ومن المحزنات ما أبكاني كثيرا، ولا أنكر أن رأيت في هذه المدة رجالا أكفاء والعباقرة في العلوم الفنونقرت بها عيني وزالت بها أحزاني.

سمعت أن السلطان محمود الغزنوي هو الذي فتح هذه البلاد للمسلمين ودوخها من الشمال إلى الجنوب وهزم الأحزاب والجنود المجندة لملوك الهند، فكان برهانا على أن الإيمان يغلب العدد، وذلك في فجر القرن الخامس الهجري. وبعد قرن ونصف غزا الهند السلطان شهاب الدين الغوري وهو الذي رسخت به قدم المسلمين في دلهي وقامت في الهند لدولة مستقلة. 

فقد خلف الغوري مملوكه قطب الدين أيبك الذي كتبت به شرف فتح عاصمة الأرض بعدما طرق بابها في الزمان الأول الفاتح الشاب محمد بن قاسم. وخلف السلطان قطب الدين ايبك مملوكه شمس الدين التمس، واستمرت دولة المماليك 87 سنة جاء في خلالها ملوك يتجمل تاريخ دلهي بهم كالقائد قطب الدين أيبك، والملك الصالح ناصر الدين بن التمس والملك العادل غياث الدين بلبن. 

وصل الأتراك إلى غزنة في القرن الثاني عشر للميلاد حيث استولى السلطان محمد الغوري ومملوكه قطب الدين، وكان يلقب بسباه سالار، اغتيل السلطان محمد الغوري في عام 1206، وأعلن قطب الدين ايبك نفسه سلطانا على دلهي، وهكذا بدأت سلاسة إسلامية حاكمة في الهند وبسطت سلطتها 320 عاما، وفي القرن الرابع عشر، زحف تيمور لنك محتاجا آسيا من بلاد فارس إلى الهند، مما أدى إلى قيام سلطة السلالة المغولية في دلهي، واستمر حكم المغولي قرابة الخمسة قرون.

انقرضت دولة سادتي المماليك، والأرض لله يورثها من يشاء، وجاء الخلج ورأيت من غرائب الإنسان، عما كريما يقتله ابن أخيه وختنه، ثم قضى على الخلجيين بالزوال بعد31 سنة، وورثهم آل تغلق، وكان منهم ملك غريب الأخلاق وهو محمد تغلق، الملك العاقل المجنون الذي أراد أن يحول العاصمةإلى دولت آباد ولكن الله رحم وحشتي ورجع إلى حضني بعد مدة قليلة، وخلفه محمد تغلق شاب صالح اسمه فيروز شاه تغلق الذي بنى المساجدوالمدارس، وأنشأالشوارع والرباطات ورد المظالم.

حكم آل تغلق 135 سنة، مدة طويلة، ثمطوي بساطهم وآل الأمر إلى اللودهين وكان أوسطهم سكندر اللودهي، ملكا عادلا يحب العلم والعلماء. وفي عهد إبراهيم اللودهي جاء بابر وهو من آل تيمور لنك من كابل وكسر جنود اللودهي في ساحة باني بت، فكان برهانا على أن العزيمة تغلب الكثرة، وأسس دولة المغول التي لها دوي في العالم وآثار خالدة في الهند.

وفي عهد ابنه همايون نهض شير شاه السوري فطارد همايون إلى إيران وأسس دولة منظمة لم تشهدها الهند في تاريخها،خلف همايون الذي استرد ملكه بمساعدة شاه إيران ابنه جلال الدين محمد أكبر وهو الذي اتخذآكره عاصمة له، وخلفه ابنه جهانغير، وكان أفضل من أبيه وحفيدهـ واضمحلت آثار أكبر في عهده، وخلف جهانغير ابنه شاه جهان، وهو صاحب الآثار الجميلةفي الهند بنى جامعا في دلهي من أجمل مساجد المسلمين في العالم، وبنى القلعة الحمرا، وبنى على قبر زوجته التاج محل وهي الدرة اليتيمة في البناء والآية النادرة في الهندسة.

خلف شاه جهان ابنه السلطان أورنك زيب عالمغير وهورجل رشيد، ولكن من سوء الحظ أن خلفاء أورنك زيب لم يكونوا رجالا أكفاء في دين والسياسة، فأصبحت السياسة هزلا والدولة ألعوبة.

وفي عهد محمد شاه بلغ السيل الزبى وطم الوادي على القرى، بعث الله على دلهي عبادا لهم أولى باس شديد فجاسوا خلال الديار، جاء نادر الشاه في عام 1739م من إيران فوضع فيهم السيف وبلغ القتلى من الهندجية في دهلي مائةألف ونيفا، وسالت دمائهم الشوارع، ولم يغمد السيف إلا بعد ثلاثة أيام. 

ولم يبق أهل دلهي والمسلمون من سكرتهم، فاجتمععليهم المرهتة والسكة اجتماع الأكلة على القصعة، وفي كل يوم غارة ونهب وسلب وإهانة وجلاء، فخربت قرى كثيرة. وهدمت مساجد ذكر فيها اسم الله كثيرا،وعجز المسلمون عن مقاومتهم ودخل في قلوبهم الجبن والخوف. 

وكان للحكم المغولي النصيب الأوفر من الظلام الذي مد رواقه على المعمورة. ولما دخلها الإسلام وحكمها المسلمون ثمانية قرون شيدوا خلالها حضارة راقية، وعاشوا فيها متسامحين مع أصحاب الديانات الأخرى، وضربوا أروع الأمثلة للحب والسلام، وسماحة الإسلام، والود والوئام. وفي العصر المغولي الذهبي عرفت الهند بلد الحضارات والديانات واللغات. وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعاً. 

اتصل البريطانيون مع حكام الهند المغول عام 1615م، وكان ذلك حينما أرسل الملك البريطاني جيمس الأول سفيرا ليقدم احتراما للبلاط المغولي، وذلك خلال الفترة حكم جهانغير الذي انتقل الحكم إلى ابنه شاه جهان. وقد واجه الحكم المغولي فترة تحددا داخل الإمبراطورية وخارجها، بعد حكم شاه جهان حينما الأفغان عاودوا الهجوم على الإمبراطورية المغولية، فضلا عن تحد أخرى من لإقليم البنجاب حيث أعلن أشهر اساتذة السيخ غوروغوفند دولة البنجاب تحت سيطرته في نهاية القرن السابع عشر متحديا الحكم المغولي في دلهي.

وفي عام1857م تحولت السلطة دلهي إلى البريطانيين تماما الذي رسخوا أقدامهم في الهند من خلال المراكز التجارية في سورت وغجرات وكلكتا، وبعد ثورة عام1857م أرادا الشركة الهند الشرقية البريطانية إلى الحكومة، فأول ما فعل البريطانيون في تلك الفترة هوترك السلطة للحكام  المهارتا المحليين والسلاطين والمهرجان والنظامات وخدموا المستشارين بدلا من اللأسياد، وكان مع ذلك في الهند مزيا من السلطة أكثر من ملك انجلترا، وكانت الملكة فيكتوريا أعلنت إمبراطورية الهند فضلا عن ألقابها البريطانية، زار الملك جورج الخامس أبن الملكة الهند في عام 1911م للحضور احتفال دلهي حيث انتقلت السلطة المركزية من كولكاتا في البنغال إلى العاصمة المغولبة في دلهي.

تم تأسيس المؤتمر الوطني الهندي في عام 1885م، وكان من هدفه أولا المطالبة للحقوق الإنسانية للهنود ثم طالب من السلطة البريطانية بالاستقلال في عام 1914م في أول مرة في تاريخ الهند الحديث، حيث ارسلت القوات الهندية إلى أوربا لمساعدة بريطانية في الحرب العالمية الأولى…وفي خلال هذه الفترة ، زاد حنق الهنود ضد البريطاني واطلبوا يحكم بأنفسهموتولى مسئولية بلدهم، لم يرغب البريطانيون في ترك الهند…. وفي هذه الفترة ظهر على المسرح السياسي الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي كرس حياته للدفاع عن الهند حيث قاد حركته غصيان مدني لتلميح رمزي.اعتمد تكنيك غاندي على أساس “الساتياجراها” التي تعني الاصرار على الحق. تتألف “الساتياجراها” من كلميتين باللغة السنسكريتية “ساتيا” معناها الحقيقة، و”جرها” التي تعني الاصرار على الالتزام. وكانت “الساتيا جرها” بالنسبة لغاندي هي قوة روحية وأخلاقية.لقد أستطاع غاندي أن يحطم فكرة الامبراطورية الانجليزية التي لا تغيب الشمس عنها بأسلوبه وأفكاره وأعطى من أسلوبه اللاعنف عبرة لمن يرى في المقاومة السلمية أسلوبا عقيما في محاربة الاحتلال.

نالت الهند استقلالها عن بريطانيا المستعمرة، هو يوم أُعلن 15 أغسطس 1947 عيدا لاستقلال الهند عن الحكم البريطاني. حيث حصلت الهند على استقلالها بعد حركات المقاومة الغير المسلحة والعصيان المدني التي قادها المؤتمر الوطني الهندي بقيادة مهاتما غاندي وجواهر لال نهرو،أصبح جواهر لال نهرو رئيس الوزراء الهند فترة سبعة عشر عاما، ثم اغتيل أبوا لهند المهاتما غاندي بعد عدة أشهر من الاستقلال، أطلق عليه النار هندوسي متطرف معارضا لولادة دولة جديدة للمسلمين، وعارض تسامح غاندي تجاه أتباع الديانات الأخرى.

قد قام عدد كبير من مفكري ومصلحي الهند لإيجاد التوافق والتطابق والاتحاد بين أهالي الهند وبذلوا كل ما في وسعهم في سبيل التضامن بين مواطنيها وفي إيجاد الوحدة القومية والقوة البشرية لكيتبقي الهند متحدة متماسكة متضامنة بأقوام مختلفة وديانات مختلفة وحضارات مختلفة في وحدة كاملة. 

وأحيانا يأخذني الفكر بعيدا في زمن آخر في عالم آخر قديم.وكنت أقول لك يا سيدي بأن الاشتباكات اندلعت أول مرة يوم الأحد بين متظاهرين مؤيدين وآخرين معارضين لقانون الجنسية المثير للجدلوتركزت في الأحياء ذات الغالبية المسلمة، مثل موجبور، مصطفى آباد، جفراباد وشيف فيهار، الواقعة في شمال شرقي دلهي.وانا أشاهد في الشوارع في هذه المناطق ممتلئة بالحجارة والزجاج المهشم والمركبات المحطمة والمحترقة، حتى الآن أجد رائحة الدخان المنبعثة من الأبنية المشتعلة.

فقلت لها: 

يا أيتها دلهي الحبيبة!

 ها أنا أسمع نداءك من بعيد، وأحس بملامس جناحيك، وأشعر بك عندما تتألم وأدرك صوت أنين، وأرى دموعك، وأحزن لحزنك وأبكي مع بكائك، أنا من أبناءك الذي شرب من مائك وعاش في أرضك، فكيف لي أن أنكر الجميل، ولا أبادلك الحب العميق، لن أرضى بديلا يا حبيبتي دلهي، ،فأنت الأغلى والأجمل عندي، يسرى حبك في شراييني، ولا أدري تبادلني شعوري، فكل ما أقول لك هو أنت عشقي وحياتي، أنت التي أنرت الهند، هادها ونجادها وسهلها وعرها، وعامرها وغامرها، فهل لك أن تشرق من جديد، فهل لك أن تنير ظلماتها وتبدد ما أظلمها من سهب الهموم والأحزان.

 كنت أتحدث إليها بما شاء قلبي وحبي، وأسمع حديثها وهوكان حشاشة نفسها وعصارة تجاربها، وكان تصويرا من قلبها وتعبيرا عن عواطفها، وهي تذكر آلامها وآمالها كأنها عيناها فقدت النور وقلبها حرم السرور، إذ سمعت هتاف الناس فنظرت من النافذة إلى الخارج، والناس يتظاهرون ضد القانون الأسود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى