Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
علوم وتك

“انت فاكرني هندي؟!”.. كيف أصبحت الهند قوة فضائية عظمى؟

شادي عبد الحافظ

في الغالب أنك قد سمعت بإحدى هاتين القصتين على وسائل التواصل الاجتماعي، ولو مرة واحدة خلال السنوات القليلة الماضية، الأولى تتعلق بأن الجيش الهندي ظل يراقب جُرما لامعا في السماء ظنًّا منهم أنه قمر اصطناعي معادٍ لمدة ستة أشهر ثم اكتشفوا بعد ذلك أنه كان كوكب زحل أو الزهرة، والثانية تقول إن غواصة نووية هندية قد غرقت لأن أفرادها نَسَوا الباب مفتوحا. في الواقع، كلتا القصتين لا يمتُّ للواقع بِصِلة، حيث قام أحدهم بتأليف تلك الأحداث لأنه يعِي أن الكثيرين لديهم تصوّر يعُدُّ الهنود، بشكل أو بآخر، ساذجين بدرجةٍ ما، ويمتد ذلك لصميم تصوراتنا وصولا إلى جملة شهيرة يُلقي أحدهم بها ليدلل أنه ليس ساذجا فيقول: “انت فاكرني هندي؟!”.

الهند على القمر

يبدو أن كل ما سبق غير صحيح، وهو دائما كذلك -هذا النوع من التنميط الذي يبلغ حد العنصرية في الكثير من الأحيان-، لكن الهند تحديدا تُثبت يوما بعد يوم أنها قادرة على إتيان ما كان البعض يتصور يوما ما أنه مستحيل بالنسبة لأمة بهذه المواصفات الثلاث القاتلة: الفقر، والجهل، والخلافات الطائفية. حيث قبل أيام قليلة فقط، تمكّنتمنظمة أبحاث الفضاء الهندية “إيسرو” (ISRO)، من إطلاق مهمتها الواعدة “تشاندريان-2″، والتي تهدف إلى وضع مركبة هندية على سطح القمر لأول مرة في تاريخها، بصناعة وتخطيط وإطلاق هندي خالص، وبذلك تصبح الهند رابع دولة في العالم تهبط إلى القمر، بعد الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفييتي.

يحمل الصاروخ الهندي المطوّر، GSLV مارك 3، على متنه ثلاث مركبات، الأولى ستدور حول القمر على ارتفاع مئة كيلومتر لعمل مسح شامل لسطحه، والثانية -تسمى “فيكرام” نسبة إلى رائد مشروع الفضاء الهندي فيكرام سرابهاي- ستهبط إلى سطح القمر لتبقى ثابتة هناك، أما المركبة الثالثة، تسمى “براجيان”، فستنفصل عن رفيقتها القمرية، وهي مركبة روبوتية سيكون دورها السير على سطح القمر لمدة 14 يوما من أجل سحب عينات من التربة القمرية والصخور وتحليلها.

تشاندريان-2 تنطلق إلى القمر

مواقع التواصل  

ووفقا للجدول الزمني الخاص بالمهمة2، يبدو أن “تشاندريان-2” ترغب في أن تأخذ كل الوقت الكافي في رحلتها، حيث ستتخذ مدارا بيضاويا حول الأرض لمدة 23 يوما، ثم بعد ذلك تفلت نفسها من مدار الأرض وتنطلق إلى القمر في رحلة مدتها شهران. خلال الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول القادم، ستنزل فيكرام إلى الجزء الجنوبي من سطح القمر، وفي حال نجاح تلك المهمة ستعلن الهند نفسها كأول دولة في العالم تهبط إلى المنطقة الجنوبية من القمر، وهي منطقة ذات أهمية خاصة للعلماء بسبب وجود الماء المتجمد في بعض فوهاتها.

“تشاندريان-2” هي الخطوة الثانية في خطة الهند لدراسة القمر عن كثب، المهمة السابقة لها كانت3 “تشاندريان-1″، وقد تمكّنت بنجاح من الوصول إلى القمر والدوران حوله من أجل دراسة سطحه، تحديدا الجزئية المتعلقة بالماء، كذلك أسقطت المركبة بعض الأجهزة إلى القطب الجنوبي للقمر من أجل إجراء فحوصات سريعة قبيل تحطمها على سطحها، وعلى الرغم من أن هذا النوع من الإنزال لا يعد وجودا حقيقيا للهند على سطح القمر، فإن نجاح تلك العملية أعطى الضوء الأخضر لـ “تشاندريان-2”.

ملوك الأسعار

لكن النجاحات الهندية في نطاقات علوم الفضاء سابقةٌ لـ”تشاندريان-2″، في الواقع فإن الهند لا تحاول أن تُصدر نفسها كقوة فضائية جديدة لإثبات وجودها سياسيا، بل عملت الإدارة الهندية من البداية، السبعينيات من القرن الفائت، على سياسة تنمية مدفوعة بالاستثمار في العلوم الفضائية، بمعنى أن الحرب بين الروس والأميركان كانت دافعا للإنفاق على مهام مثل “لونا” و”أبولو”، لكن بالنسبة للهند فإن الأمر كان يتعلق في الأساس بنطاقين، الأول هو دعم خدمات الاتصالات والتلفزة في البلاد، والثاني هو تصدير نفسها كمنافس قوي في سوق هذا النوع من المهام الدقيقة.

على سبيل المثال، في العام 2014 تمكّنت الهند4، كأول دولة في العالم تنجح عبر محاولة واحدة، من وضع مسبار فضائي ليدور حول المريخ، وعلى الرغم من أن هدف المهمة كان تدريبيا لاختبار قدرة المكونات الهندية على أداء المهام بنجاح، فإن تكلفة تلك المهمة كانت 73 مليون دولار فقط، بسبب الانخفاض الشديد في تكاليف المهمة، مقارنة بمهام وكالات الفضاء الأخرى، كان “الميمي” الأشهر وقتها هو مقارنة تكاليف المهمة “مانجاليان-1” بفيلم “جاذبية” (Gravity)، الذي تكلّف 100 مليون دولار!

أما في العام 2017 فقد نجحت الهند5، عبر المهمة PSLV-C37 في إطلاق 104 قمر صناعي إلى الفضاء دفعة واحدة، كان الرقم القياسي في هذا النوع من النشاطات من نصيب الصاروخ الروسي “دنبر” (Dnepr)، والذي تمكّن من حمل وإطلاق 37 قمرا صناعيا للعمل في الفضاء في رحلة واحدة، بذلك تُضاعف الهند الرقم القياسي العالمي ثلاث مرّات، وتفتح الباب لنقل فضائي أرخص كثيرا من المتعارف عليه، بالتالي ستصبح “إيسرو” قبلة لكل الراغبين في الحصول على أفضل جودة -حيث إن مهامهم تنجح من أول مرة- وأفضل سعر، وما أكثرهم في العالم الرقمي المعاصر. سوق صناعة وإطلاق ومتابعة الأقمار الاصطناعية تبلغ قيمته أكثر من 120 بليون دولار.

إذا قررت تأمل أنواع الصواريخ التي تستخدمها “إيسرو” في مهامها فستفهم السر في تلك التكلفة القليلة، فالهند لا تحاول أن تنافس في الحجم أو القوة أيًّا من الصواريخ التي استخدمتها ناسا مثلا في مهامها، “ساتورن 5” العملاق على سبيل المثال، بطول نحو 100 متر في مهمة الوصول إلى القمر، مقابل نحو 50 مترا لأطول الصواريخ الهندية، حتّى إنه في حالة المهمة “مانجليان-1” اضطر الصاروخ للدوران حول الأرض لعدة أسابيع من أجل الوصول لأقصى ارتفاع ممكن والانطلاق للمريخ، لأن الصاروخ لم يحمل وقودا كافيا، بالتالي فإن الفكرة دائما كانت محاولة استخدام الإبداع التكنولوجي الصادر من عقول الهنود والذي قد يستبدل الكثير من التكاليف.

كذلك فإن الصواريخ الهندية تتنوع بهدف خدمة العملاء بشكل أكبر، في الواقع فإن مقطع “SLV” الذي تلقاه في كل صاروخ فضائي هندي يعني “Satellite Launch Vehicle” (صواريخ حاملة للأقمار الصناعية)، ما يعني أن الفكرة بالأساس تهدف إلى دعم نوع من العمل التجاري من خلال تلك الصواريخ التي طُوّرت على أرض الهند. بالتالي، رغم أن “إيسرو” هي وكالة قومية، فإنها كانت من اللحظة الأولى ذات غرض ربحي7،6 أيضا مثل سبيس إكس (SpaceX)، بل ويمكن لك أن تعقد مقارنة بين المنظومتين (إيسرو وسبيس إكس) لتجد درجات تشابه واضحة، الهند -ببساطة- لا تمتلك رفاهية استعراض القوة.

أرض الخرافات والفيزياء الدقيقة!

تهدف الهند كذلك -عبر تلك النجاحات- إلى تصدير فكرة أخرى ناعمة أكثر أهمية، فكرة تقول إنه يمكن لك أن تجد أفضل تكنولوجيا في الهند وبالتالي أفضل الباحثين والمهندسين، وهو ما يفتح الباب لجذب استثمارات غاية في الضخامة إلى أرضها، ليس في عوالم تكنولوجيا الفضاء فقط ولكن الرسالة تشمل كل شيء آخر متعلق بالعلوم والتكنولوجيا. لكن الأمر يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، في العام 1960 قال “نهرو” في خطاب شهير8 إن “العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجوع والفقر ونقص الصرف الصحي والأمية والخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة، إن المستقبل للعلم، ولمن يتخذون العلم صاحبا”.

بل ويمكن لك أن تجد، في الدستور الهندي، مادة تقتضي أن “يشارك كل مواطن هندي في تنمية الفكر العلمي”، إنه لشيء يدعو للتعجب حقا أن تقرر الإدارة الهندية دعم العلم والعقلانية كخطة أولى أساسية في مجتمع يسوده الفقر والجهل والخرافة بمستويات من العمق بحيث لا يمكن تصوّر وجودها، لكن الفكرة البسيطة كانت أنه طالما أن العِلم والتكنولوجيا قد مكّنتا الولايات المتحدة الأميركية من أن تصبح قوة عظمى، فيمكن له على الأقل أن ينتشل الهند من قاع الفقر والجهل.

أضف إلى ذلك أن الهند تمتلك موردا هو الأكبر على الإطلاق، إنه القوة البشرية، ورغم أن تلك القوة هي بالأساس ما يقيّد اقتصاد الهند، فإنه يمكن للعلم أن يكون معادلا موضوعيا للمشكلة نفسها، في تلك النقطة تدخل أنجيلا سايني، في كتابها “أمة من العباقرة” (Geek Nation)، لتقول إن تلك الفكرة كانت السبب الرئيسي في النهضة العلمية الهندية المعاصرة، ليس فقط لأن هذ النوع من الحلول ينجح دائما وله نتائج ساحرة على المدى القصير والطويل، بل لأن الهنود بطبيعتهم شغوفون بالعلوم والهندسة.

الناس هم السبب!

في كتابها، تحاول سايني أن توضح ما الذي تعنيه كلمة إنجليزية حديثة تُنطق “جييك” (Geek)، والتي تُرجمت إلى العربية بـ “عبقري” لكنها ليست قريبة بما يكفي، فهي كلمة لا تعني الذكاء فقط بقدر ما تعني الهوس بتلك الأشياء المتعلقة بالعلوم والهندسة، يمكن لك -بشكل واضح- أن تلاحظ ذلك إذا كنت من هواة التعلم عبر يوتيوب، حيث دائما ما ستصطدم بهذا الهندي الذي يبسّط الكيمياء الكوانتية أو الذكاء الاصطناعي أو تحليل البيانات أو الفيزياء النووية، إلخ، حتّى إن أحد “الميمات” الأميركية الشهيرة هو لطالب في المرحلة الثانوية لا يقدم الشكر إلى مدرّسه بعد انتهاء الدراسة ونجاحه في الامتحانات، بل إلى الويكيبيديا، ومجموعة فيسبوك، والشاب الهندي على يوتيوب.

داخل منظمة أبحاث الفضاء الهندية “إيسرو” (ISRO) – (رويترز)

هناك دلائل -ترى سايني أنها واضحة- على ذلك الادعاء، فإذا بحثت قليلا ستجد أن واحدا من كل خمسة من العاملين بحقل الرعاية الطبية في المملكة المتحدة من أصل هندي، وواحدا من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة من أصل آسيوي في العموم، ويعتقد البعض أنه مع مطلع الألفية الجديدة كان ثلث المهندسين العاملين في وادي السيليكون من أصل هندي، ويدير الهنود 750 شركة تقنية هناك ويحتلون أعلى الوظائف في مؤسسات مثل غوغل.

إنها خطة ناجحة دائما، خاصة في الدول التي تمتلك موارد بشرية هائلة، نجحت في الصين وفي الهند كذلك، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل تصريحا صدر عن الرئيس الصيني9، شي جين بينغ، خلال مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، أوضح فيه أن خطة الصين القادمة، والتي تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين بداية من 2022 إلى 2050، تتضمن دفع الصين لتصبح “قوة عظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا، خاصة في مجالات علوم الفضاء والتكنولوجيا الرقمية”، موضحا أن الصين تتبع إستراتيجية للتنمية مدفوعة بالابتكار البحثي وتسعى إلى تحصيل أكبر استفادة ممكنة من الإنترنت والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.

لكن أكثر ما يلفت الانتباه في النهضة الفضائية الهندية هو أنها جاءت من عالم فقير، نامٍ، مشكلاته كثيرة ومتنوعة وعميقة للغاية بحيث لا يمكن أن تتصور طريقة سهلة لاجتثاثها قريبا، أناس لا يتصور أحد أن ينشغلوا بأمور كتلك، لكنهم فعلوا، وفي أثناء ذلك قدموا للعالم رسالة واضحة وبسيطة مفادها أن المشكلة ليست في الناس. في الواقع فإن أول ما يفعله الاستبداد في أمة نامية هو التذكير الدائم للمواطنين بأنهم فقراء وجهلة، ويعني ذلك بالتبعية أنه لا يمكن لهم أن يتقدموا مهما حدث، لأن المشكلة -بحسب هذا النوع من الادعاءات- ليست في الإدارة، وإنما في الناس أنفسهم. أما الهند، فتقدم دليلا عمليا واضحا ينسف تلك الفكرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى