
كنز لا يفنى: حوار مع د. عبد الحفيظ الحاصل على الدكتوراه الفخرية في خدمة العربية
في لحظة تاريخية مشرقة للغة العربية وأهلها، نال الدكتور عبد الحفيظ الدكتوراه الفخرية من جامعة واشنطن تقديراً لجهوده الاستثنائية في خدمة اللغة العربية ونشرها عالمياً. هذا العالم المتميز الذي أفنى عمره في سبيل إحياء لغة الضاد، بدأ رحلته من كيرالا بالهند حيث تأثر بجمال القرآن الكريم وإلهام أساتذته الأفاضل.
أسس الدكتور عبد الحفيظ مؤسسة “أبجد” التي أصبحت منارة لتعليم العربية لغير الناطقين بها، وألف كتاب “معلم الإنشاء” الذي انتشر في أوساط أكاديمية مختلفة حول العالم، كما أطلق “أكاديمية لاين للغات” التي ربطت اللغة بالعصر الرقمي.
في هذا الحوار الشيق مع نسيم حمزة رئيس تحرير موقع الهندية، يحدثنا الدكتور عن رحلته العلمية الحافلة، وإسهاماته الرائدة، ورؤيته المستقبلية لمواجهة تحديات العصر الرقمي، مؤكداً أن اللغة العربية كنز حضاري لا يفنى.
دكتور عبد الحفيظ، مبارك لك هذا الإنجاز العظيم. حدثنا عن شعورك لحظة تسلمك الدكتوراه الفخرية من جامعة واشنطن؟
ج ـ”الحمد لله .. أشعر بفخرٍ عظيم وامتنانٍ عميق لهذه اللحظة التاريخية. إنها تتويج لمسيرةٍ طويلة من البحث والعطاء في خدمة لغتنا العربية الجميلة، وتقديرٌ دولي لمكانتها وأهميتها. هذا التكريم ليس لي وحدي، بل هو لكل من آمن بقيمة اللغة العربية وعمل على نشرها وتطويرها. إنه يضع على عاتقي مسؤوليةً أكبر لمواصلة هذا الدرب.”
ما هي القصة وراء شغفك باللغة العربية؟ متى بدأت رحلتك مع هذه اللغة الجميلة؟
ج-“شغفي باللغة العربية بدأ منذ الصغر، متأثرًا بجمال القرآن الكريم وسحره البياني، وبتشجيع من أساتذتي الأفاضل الذين غرسوا في داخلي حب هذه اللغة العريقة. أذكر هنا أستاذي المرحوم السيد كيه يس كيه الذي بذر في قلبي حبي للغة ثم في مرحلة الثانوية العالية كان عميد كليتنا الدكتور محي الدين الآلوايي الذي بلغ العرب في فصاحته وهو الذي ربى فيّ الشغف نحو اللغة العربية وكانت مكتبة کلییتنا المتواضعة تزخر بكنوز الأدب والشعر، وكانت هي الشرارة الأولى التي أشعلت رحلتي مع اللغة، لأدرك بعدها أنها ليست مجرد كلمات وحروف، بل هي روح وهوية وتاريخ وحضارة.”
من هم الأساتذة أو الشخصيات الذين أثروا في مسيرتك العلمية وألهموك للتخصص في اللغة العربية؟
ج-“لقد حالفني الحظ بلقاء أساتذة عظام تركوا بصمة لا تمحى في مسيرتي. أذكر منهم الأستاذ عبد الواحد الندوي الذي علمني عمق النحو ، والسيد سلمان الحسيني الندوي الذي وجهني نحو البحث العلمي الرصين. كانت توجيهاتهم وتشجيعهم هي الوقود الذي دفعني نحو التخصص في اللغة العربية وجعلني أكرس حياتي لخدمتها.”
ما هي أبرز إسهاماتك في خدمة اللغة العربية التي أهلتك لنيل هذا التقدير الأكاديمي الرفيع؟
ج -“من أبرز إسهاماتي تأسيس أبجد والذي أصبح منارة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في ربوع كيرالا. كذلك، قمت بتأليف كتاب معلم الإنشاء الذي سهل تعلم العربية ونشرها في أوساط أكاديمية مختلفة حول العالم. وأفتخر بشكل خاص بمشروعنا أكاديمية لاين للغات الذي ساهم في ربط اللغة بالعصر الرقمي.”
هل يمكنك أن تحدثنا عن أهم المشاريع أو البحوث التي قمت بها في مجال اللغة العربية؟
ج ـ”بالتأكيد، من أهم المشاريع التي عملت عليها هو مشروع الجامعة المفتوحة في إشراف الجامعة الإسلامية ولكنها لم تولد لأسباب عديدة وكان هذا المشروع يهدف إلى تعليم الراغبين في تعلم اللغة بغض النظر عن أعمارهم . كما قمت ببحث موسع حول تعليم مادة الإنشاء والذي تم نشره باسم معلم الإنشاء ويهدف إلى تدريس الإنشاء من الجمل المختصرة إلى إعداد تقرير صحفي والترجمة الفورية . وهذه المشاريع كانت محاولات جادة لتعليم اللغة العربية ولتقديم حلول مبتكرة لتحديات اللغة العربية في العصر الحديث.”
كيف ساهمت في نشر اللغة العربية وتعليمها، خاصة في البيئات غير العربية؟
ج-“ركزت جهودي على تطوير مناهج تعليمية مرنة ومناسبة لغير الناطقين بالعربية مع نخبة من الخبراء في تعليم اللغة العربية، مع التركيز على الجانب التواصلي والثقافي. أقمنا ورش عمل تدريبية للمدرسين في مدارس و کلیات وطنية ، وأطلقتُ مبادرات للتبادل الثقافي والأكاديمي عن طريق بعض المؤسسات الثقافية مثل همسة سماء الثقافة . كما حرصت على تبسيط القواعد اللغوية وتقديم المحتوى بطرق جذابة، باستخدام التكنولوجيا الحديثة لجعل تعلم العربية تجربة ممتعة ومتاحة للجميع.”
ما هي أكبر التحديات التي واجهتها في رحلتك العلمية، وكيف تغلبت عليها؟
ج- “كانت التحديات متعددة، من أبرزها الحصول على التمويل اللازم للمشاريع البحثية الضخمة، وكذلك إقناع بعض الأوساط الأكاديمية بأهمية التجديد في دراسات اللغة العربية. تغلبت عليها بالإصرار والمثابرة، وبناء شبكة علاقات قوية مع باحثين ومؤسسات داعمة، وكذلك بتقديم رؤى وأبحاث ذات قيمة علمية عالية أثبتت جدواها وأهميتها. وإن أكادمية لاين للغات خطوة مهمة في سبيل ذلك .
في عصر التكنولوجيا والعولمة، ما هي التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم؟
ج ـ “تتمثل التحديات الرئيسة في هيمنة بعض اللغات الأخرى في الفضاء الرقمي والعلمي، وكذلك انتشار اللغات الهجينة في التواصل اليومي، مما قد يؤثر على فصاحة اللغة العربية. يضاف إلى ذلك، الحاجة الملحة لرقمنة المحتوى العربي بشكل شامل وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي التي تفهم وتخدم تعقيدات اللغة العربية بشكل فعال.”
ما هو دورك في مواجهة هذه التحديات المعاصرة؟
ج- “أسعى لمواجهة هذه التحديات من خلال ثلاثة محاور رئيسة: أولًا، دعم البحث العلمي في مجال معالجة اللغة العربية آليًا وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ثانيًا، العمل على تحديث المناهج التعليمية لتتواكب مع متطلبات العصر وتجذب الأجيال الجديدة.
ثالثًا، التوعية المستمرة بأهمية اللغة العربية ودورها الحضاري، وتشجيع استخدامها الفصيح في وسائل الإعلام والمنصات الرقمية.”
كيف ترى دور اللغة العربية في الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري
ج-“اللغة العربية هي الوعاء الذي حفظ تاريخنا وتراثنا الغني، من علوم وفلسفة وأدب وفن. هي الجسر الذي يربطنا بحضارة عريقة قدمت الكثير للإنسانية. بدونها، سنفقد جزءًا كبيرًا من هويتنا وذاكرتنا الجمعية. إن الحفاظ عليها يعني الحفاظ على إرث ثقافي وحضاري لا يقدر بثمن.”
ما هي أهمية تعلم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى في فهم الثقافة العربية والإسلامية؟
ج-“تعلم اللغة العربية يفتح آفاقًا واسعة للناطقين بلغات أخرى لفهم الثقافة العربية والإسلامية فهمًا أصيلًا وعميقًا. إنه يسمح لهم بالوصول المباشر إلى النصوص الأصلية للقرآن والسنة، والأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر، والتراث الفكري والفلسفي. هذا الفهم المباشر يزيل الكثير من سوء الفهم ويساهم في بناء جسور التواصل والحوار الحضاري.”
ما هي الرسالة التي تود توجيهها لقراء موقع الهندية حول أهمية اللغة العربية؟
ج ـ”رسالتي لقراء موقع الهندية، وخصوصًا في هذا البلد العظيم الذي يمتلك روابط تاريخية وثقافية عميقة مع العالم العربي، هي أن اللغة العربية ليست مجرد لغة للتواصل، بل هي مفتاح لحضارة غنية، وفهم أعمق للتاريخ والفلسفة والدين. إن تعلمها يثري العقل والروح، ويفتح أبوابًا لفهم عالم متعدد الأبعاد، ويعزز التفاهم بين الشعوب. استثمروا في هذه اللغة، فهي كنز لا يفنى.”
حدثنا عن تجربتك في التعاون مع الباحثين والعلماء الهنود في مجال اللغة العربية؟
ج-“لقد كانت لي تجارب ثرية ومثمرة للغاية في التعاون مع الباحثين والعلماء الهنود. الهند لديها تاريخ طويل وعريق في دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وهناك شغف حقيقي بهذه اللغة. شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات هنا، وأجريت أبحاثًا مشتركة مع زملاء هنود، مما أثرى تجربتي العلمية والشخصية. هذا التعاون يعكس الروابط الثقافية العميقة بين بلدنا والعالم العربي.”
ما هو دور الهند تاريخياً في خدمة اللغة العربية، وكيف يمكن تطوير هذا الدور اليوم؟
“تاريخياً، لعبت الهند دوراً محورياً في خدمة اللغة العربية، ليس فقط كمركز للدراسات الإسلامية والعربية، بل كحافظة للعديد من المخطوطات النادرة، وكمنبع لعلماء وفلاسفة أثروا المكتبة العربية. اليوم، يمكن تطوير هذا الدور من خلال زيادة برامج التبادل الأكاديمي، ودعم الأبحاث المشتركة في مجالات الترجمة والذكاء الاصطناعي للغة العربية، وتشجيع تعليم العربية في المدارس والجامعات الهندية لتعزيز الفهم المتبادل.
ما هي الاستراتيجيات التي تقترحها لجعل تعلم العربية أكثر جاذبية للأجيال الجديدة؟
“لجعل تعلم العربية جذابًا للأجيال الجديدة، يجب دمج التكنولوجيا الحديثة بشكل أكبر، مثل تطوير تطبيقات تعليمية تفاعلية ومنصات ألعاب لغوية. كما يجب ربط اللغة بالمحتوى الذي يثير اهتمامهم كالسينما والموسيقى ووسائل التواصل الاجتماعي. من المهم أيضًا إظهار الجوانب الحيوية والمعاصرة للغة، وتبيان الفرص المهنية التي يمكن أن تتيحها إتقان العربية في عالم اليوم.”
ما رأيك في استخدام الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية؟
“أرى أن الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانيات هائلة لخدمة اللغة العربية وتطويرها. يمكنه المساعدة في الترجمة الآلية الدقيقة، وتطوير برامج التعرف على الكلام والنطق، وإنشاء معاجم ذكية، وتحسين أدوات التدقيق اللغوي والإملائي. كما يمكنه أن يسهم في تحليل النصوص العربية الضخمة واستخلاص المعلومات منها. ومع ذلك، يجب أن نضمن أن تطوير هذه الأدوات يتم بمشاركة خبراء اللغة للحفاظ على أصالة وجمال العربية.”