الهند بلاد الطب والحكمة وفضلها على الطب العربي
الهند بلاد عظيمة بغير شك، ولها فضل ليس على حضارة العرب وحدهم، وإنما أيضًا على الحضارة الإنسانية عامةً، وسوف نوضح في هذا المقال فضل الهند وأطبائها على الطب العربي القديم، الذي أفاد بدوره أطباء الغرب وساهم في نهضة الطب الحديث، فالحضارة الإنسانية سلسلة متراكمة من المساهمات العلمية والفكرية، والعرب تعلموا من الهنود واعترفوا بذلك، كما أن الأوروبيين تعلموا من العرب.
وعلاقة العرب مع الهنود قديمة جدًا، وهي علاقة تجارية في الأساس، وكان تجار العرب ينقلون إلينا البضائع الهندية من التوابل والأقمشة وهي سلع شهد لها الجميع بجودتها، وكان تجار العرب في بعض الأحيان يبيعون السلع بنفس أسمائها الهندية، وفي القرآن الكريم نجد أسماءً مأخوذة عن الهندية مثل ” الزنجبيل ” و” الكافور” فهما من ضمن السلع التي كان العرب يجلبونها من الهند، والزنجبيل من أجمل التوابل فهو يعالج من البرد والزكام وينشط البدن ويساعد على التخسيس، وفوائده جمة.
وفي عام 91هـ افتتح المسلمون السند، وزادت متانة العلاقة بين العرب والهنود في عهد الخليفة المنصور العباسي، وفي عهده وتحديدًا سنة 154هـ نقل العرب كتاب ” السند هند ” إلى لغتهم، وبنى عليه السيد أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري كتابًا نافعًا حول فيه التقويم النجومي عند الهنود إلى تقويم قمري، كما ترجم العرب كتاب ” الأزجبهر ” و ” الأركند ” وكلاهما في علوم الفلك.
كما أن العرب لا ينكرون أنهم نقلوا عن الهنود بعض المصطلحات في علم الرياضيات والذي منه حساب المثلثات، ويذكر لنا السيد (ابن النديم) رحمة الله عليه في كتابه العظيم “الفهرست”، أن من كتب الهند في الطب والحكمة المنقولة إلى العربية كتاب اسمه “مسد” وهو من عشر مقالات، وكتاب “سيرك” وقد نقله العرب عن الفارسية التي كان قد تُرْجِمَ إليها أولا، وكتاب جامع عنوانه “استانكر”.
واشتهر من أطباء الهند الحكيم “شاناك” وله كتاب في السموم وهو من خمس مقالات، وهذا الكتاب نقله إلى الفارسية الحكيم “منكه” وهو هندي، ثم نقله إلى العربية بأمر يحيى بن خالد البرمكي السيد (ابن حاتم الباجي)، ثم نقله مساعده (العباس بن سعيد الجوهري) إلى الخليفة المأمون، وكان العباس يتولى قرائته على الخليفة، ويقال أن هارون الرشيد استدعي الحكيم (منكه الهندي) ليعالجه من داءٍ شديد ألمَّ به.
وبالترجمة عن الهند واليونان تعرف العرب على علوم الطب حتى إذا تمكنوا فيها ألفوا هم من تلقاء أنفسهم، وكان أول من ألف كتابًا في الطب بالعربية (علي بن ربن الطبري)، إذ تعلم الطب ومهر فيه وأيقن أنه يستطيع التأليف بشكلٍ مستقل دون الاعتماد على كتب الهند والفرس واليونان، وكتابه يسمى “فردوس الحكمة” وهو خطوة أولى وتمهيد فتح الباب لمن جاء بعده من أمثال الرازي أبو بكر، والشيخ الرئيس (ابن سينا).
غير أن “فردوس الحكمة” له فضل السبق والأولية وهو أقدم الكتب الجامعة التي وصلت إلينا من كتب حكماء العرب وفيه فنون الطب والصيدلة ويعترف مؤلفه بفضل الحضارة الهندية ويحيل إلى اطباء الهند وكتبهم.
والطب العربي أيام الجاهلية وصدر الإسلام، كان يعتمد على الأعشاب الصحراوية وكان المسلمون يجتهدون في العلاج على قدر طاقتهم وقد رغب الإسلام في تعلم الطب وأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وكان الشافعي رحمه الله يقول “لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب” وقال: “صنفان لا غنى بالناس عنهما، العلماء لدينهم، والأطباء لأبدانهم “.
وقد أرشد النبي الكريم صلوات الله عليه صحابته إلى بعض العلاجات النافعة، وهي التي جمعها البخاري في صحيحه وعددها 129 حديثاً، جاءت في كتابين من الجزء السابع من صحيح البخاري، ويحوي الأول منهما 38 حديثاً، والثاني 91 حديثاً.
وثمة كتب مهمة في الطب النبوي فهناك الطب النبوي لشمس الدين الذهبي، والطب النبوي لابن القيم، والأحكام النبوية في الصناعة الطبية للحموي.
وفي العصر الأموي عرف العرب المؤلفات اليونانية في الطب وكتب مدرسة الإسكندرية، وقال مؤرخون أنه كان لمعاوية بن أبي سفيان طبيبان من دمشق وكانا على دين النصارى، وهما ابن آثال وكان يعرف السموم والأدوية، وذكروا أن معاوية كان يستخدمه في القضاء على خصومه بالسم، والثاني هو أبو الحكم الدمشقي وكان معاوية يثق فيه ويستأمنه وكان يعالج معاوية وأهل بيته.
وكان الطبيب “تياذوق” وهو من أهل الذمة صديقاً للحجاج بن يوسف الثقفي ومصدر ثقة له وكان الحجاج يستفيد منه، وكان لبني أود بفتح الألف والواو بعدها طبيبة اسمها زينب وهي كحالة أي طبيبة عيون، ثم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقرب منه طبيباً سكندرياً هو السيد “عبد الملك بن أبجر الكناني” وعلى يد عمر أسلم هذا الطبيب.
و لم يكن الطب متخلفاً في ذلك العهد بل كان الطبيب يهتم بصنعته وينظر إلى وجه المريض ولسانه وعينه وأظافره، ويجس نبضه وينظر إلى عينة من بوله.
وكانت السيدة سكينة بنت الحسين قد ظهر أسفل عينها خراج أخذ ينمو فأزاله الطبيب “بدراقس” بمهارة وعاد وجهها كما كان إلا أن الجراحة تركت أثراً بطبيعة الحال.
ولما بدأت الترجمة وازدهرت استفاد العرب جداً من تراث الطب الهندي، فالهند كانت وما تزال تعلم البشرية..