Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تاريخ

الحضارة الإسلامية في الهند

تذكر الكتب التاريخية عادةً دولة المغول بشكل واسع، إلا أنها لم تبقَ على الساحة الهندية سوى مائتي سنة فقط من السبعمائة التي حكم فيها السلاطين المسلمون. وفي بعض فترات العصور، استمرت العديد من الممالك الإسلامية القوية في الهند، حيث لم تتحد البلاد تحت راية ملك مغولي واحد إلا قبل سقوط إمبراطورية المغول.

ظهير الدين بابر مؤسس سلطنة مغول الهند

تاريخ الحضارة الإسلامية في الهند يعد تاريخًا متشابكًا بعمق مع مسيرة حضارة العرب العريقة. إذ إن المسلمين، بوصولهم إلى الهند، لم يجلبوا معهم مجرد أسس الحضارة العربية، بل نقلوا إرثًا حضاريًا غنيًا خضع لتحولات جذرية في أرض فارس تحت تأثيرات متنوعة من الزمان والمكان والتفاعلات الثقافية مع الشعوب التي جاءت تحت الحكم الإسلامي. هذه التحولات، التي شهدت تباينًا في شدتها واستمرت مع مرور الزمن، أثرت بشكل ملحوظ في تشكيل النسيج الحضاري الإسلامي ضمن الفضاء الهندي.

وفضلًا عن ذلك، حمل المسلمون إلى الهند الأنظمة السياسية العربية العتيدة، التي كانت تحتضن ضمن طياتها المبادئ الراقية التي كانت سببًا في ازدهار الأمم العربية سابقًا والعيوب التي أدت إلى انحسار مجدها.

في الواقع، كانت جميع الدول الإسلامية، سواء في الهند أو خارجها، تتسم بتركيز السلطات الدينية والعسكرية والمدنية في يد حكام يتمتعون بسلطة مطلقة، مما دفعهم إلى إعلان استقلالهم وتأسيس ممالكهم الخاصة. إن الممالك العظيمة التي تجمع كل السلطات في يد شخص واحد تناسب الشعوب الطامحة إلى الفتح والتوسع، لكن بقائها يتوقف على قيادة رجال عظام. ومع ندرة هؤلاء الرجال، تعرضت الدول الآسيوية الكبرى للانهيار في فترات زمنية قصيرة، وهو ما حدث بالفعل مع الإمبراطورية المغولية التي شهدت أوج ازدهارها تحت قيادة عظماء لتسقط بعد ذلك عندما فقدت مثل هذه القيادات.

عندما نقل المسلمون ثقافة العرب الزاهرة إلى أرض الهند، لم يكتفوا بمجرد نقلها، بل غرسوا أيضًا شغفًا عميقًا بالعلوم والآداب والفنون. إن الإرث المعماري الذي خلفوه في عواصمهم، مثل أحمد آباد، غور، دهلي، وبيجابور، يشهد بوضوح على مدى إسهامهم الفني العظيم. كما تؤكد السجلات التاريخية لملوك المسلمين دعمهم اللامحدود للآداب والعلوم، وكيف كانوا يشرفون شخصيًا على رعايتها، لا في الإمبراطوريات الكبرى فحسب، بل وفي الدويلات الأصغر حجمًا أيضًا. يتجلى ذلك بوضوح في مثال فيروز شاه، ملك دولة غولكندا الصغيرة، الذي اهتم بعلم النبات، والهندسة، والشعر، وأحاط نفسه بالعلماء والشعراء والمؤرخين، حتى وسط انشغالاته بالحروب ضد دولة بيجانغر.

هذه النهج التنويري لم يقتصر على ملوك غولكندا فقط بل اتبعه أيضًا ملوك المغول، في تقليد كان شائعًا بين الدول الإسلامية عبر أوروبا وآسيا وأفريقيا، كما بيّنا في أبحاثنا السابقة.

ومع أن توثيق تاريخ الحضارات الإسلامية المتعددة في الهند قد يبدو مهمة شاقة، فإننا نخص بالذكر هنا حضارة المغول التي تعد من بين الأكثر ازدهارًا. تُظهر الروايات التاريخية لمؤرخيهم وشهادات الأوروبيين الذين زاروا الهند في عهدهم، رؤية دقيقة لإدارتهم وتنظيم دولتهم. وإن الآثار المعمارية التي خلفوها تقدم دليلاً قويًا على رقي الفنون في عصر حكمهم.

أشرق فجر الدولة المغولية في الهند عندما أحكم بابر قبضته على مدينة أغرا في العام 1526م، مدينة كانت تحت سيطرة أحد أمراء الأفغان من الأسرة الملكية اللودية، ليتوج بذلك ملكًا على هندوستان وكابل. لم يدخر همايون، ابنه، جهدًا في كفاحه دفاعًا عن إرث والده، إلا أن العصر الذهبي للدولة المغولية في الهند لم يحل إلا في عهد أكبر، الملك الثالث، الذي اعتلى العرش في عام 1556م، واستمر حكمه خمسين عامًا. هذا الملك، الذي يُعد من عظماء التاريخ، لم يجمع المسلمين والهندوس على صعيد العقيدة فحسب، بل حثهم على الاتحاد والزواج بينهم، متخذًا من نفسه قدوة، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من دمج ديانات الأمتين في عقيدة واحدة، إلا أنه نجح في دمج فنون العمارة للشعوب التي حكمها. وقد عمل هذا الملك على توسيع أراضي مملكته وإدارتها بحكمة، كما يتضح من السجل الضخم الذي أمر وزيره أبا الفضل بتدوينه، حيث قام بتقييم الأراضي والأقاليم، مقدرًا خصوبة تربتها ومفروضًا الضرائب بناءً على ذلك، مخصصًا ثلث الإنتاج للدولة وثلثيه للمزارعين، وملغيًا العديد من الضرائب، وبدأ في دفع رواتب ضباطه نقدًا بدلاً من الإقطاعيات.

واصلت الدولة المغولية ازدهارها تحت قيادة خلفائه: جهانكير، وشاهجهان، وأورنغ زيب، غير أن السياسات التي انتهجها أورنغ زيب، المتسمة بعدم التسامح والحروب التي شنها ضد ممالك الدكن الإسلامية، مهدت الطريق لانهيار الدولة المغولية. فبوفاة أورنغ زيب في العام 1707م، غرقت الهند في أتون الفوضى.

في أوروبا، تُستخدم عبارة “سلطان المغول” كمرادف لمفهوم السلطان الأوحد ذي البهاء اللامع، وهذا التشبيه له جذوره في الحقيقة؛ فسلطة ملك المغول كانت مطلقة، يستثمرها في جلب خيرات مملكته الوفيرة إلى قصوره، موزعًا ثرواتها على مظاهر العظمة التي تفوق كل معاني العظمة المعهودة.

حين تنظر إلى جانب الملك، ترى الوزراء يحتشدون، فتظن للوهلة الأولى أنه يشاركهم في صنع قرارات الدولة الكبرى، بينما كانت إرادته هي القانون المطلق، وكانت السلطات المدنية والعسكرية والدينية تستمد قوتها من يده، كما هو الحال مع كبار ملوك الإسلام، فيصبح بمثابة ظل الله في الأرض، مهاب الجانب، خليفته العزيز. وزراؤه وحكامه وقادته والأمراء المغول تحت يده كانوا كقطع الشطرنج، يرفعهم ويخفضهم بمجرد كلمة تفوه بها.

لم تُعرف فكرة الأرستقراطية الوراثية لدى المغول، إذ كان الملك هو مصدر الامتيازات ومستردها بمحض إرادته، وهو الوارث الوحيد لها بوفاة صاحبها. فإذا ما انقضى عمر الرجل بعدما نال شرف القرب من الملك، وتحكم في ثروات البلاد وأرواح العباد، وتمتع بأفخر أنواع النعيم، كان يترك وراءه زوجة وأبناء يغرقون في فقر مدقع. وكل ما كان بوسعه فعله خلال حياته هو دفعهم نحو القصر، أملًا في أن يصبحوا موضعًا لكرم الملك الذي قد يتفضل عليهم بعد وفاة أبيهم أو يقرر منحهم عطايا متواضعة.

كان سلطان المغول في الهند شخصية لا تختبئ عن أنظار الشعب؛ فرغم أنه قد يكون قد طغى في بعض الأحيان على رعاياه، لم يحرمهم من لذة التمتع برؤيته، فكانت هيئته متاحة دومًا للعامة.

في كل صباح، كان يبرز في شرفته، فتتسابق الأبصار لاستقبال نور وجهه، وتتعالى الهتافات باسمه، ولم يكن يغيب عن هذا العرض اليومي إلا لضرورة المرض الشديد. وعندما يأتي زمان الظهيرة، كان يعود إلى تلك الشرفة ليتابع عروض المبارزة والتدريبات العسكرية التي تقام في ساحة القصر، وبحلول وقت العصر، كان يجلس لاستقبال الوفود والاستماع إلى كل ما يستحق أن يسمعه.

لكن، الاقتراب منه كان مهمة ليست باليسيرة، إذ كان محاطًا بدوائر من الذهب، تفصل بينه وبين الشعب أوساط من الأمراء والحراس بزيهم الفاخر، يقفون كحجاب بين الناس والعرش. ولا شك أن مشهد الاحتفال والسلطان، المتألق في أبهته وسط الجواهر، كان كافيًا ليجعل الشعب يغفر ما يُطلب منه مقابل هذا السحر البصري والحماس المشوب بإجلال يكاد يلامس الخوف.

وفي العاصمة، كانت الدرر الفنية تُجمع في عهد سلطان المغول، كما كان الحال في أغلب الدول الإسلامية. والولايات التي كان يضغط عليها حكام أطماع، كانت تعيش في شقاء، فتنتفض غالبًا ضد هذا الضغط.

من ناحية أخرى، كانت إمبراطورية المغول في الهند تتسم بنظام إداري وتنظيمي محكم وفعّال، حيث أدى الملك ومستشاروه وحكام الأقاليم مهامهم بدقة وترتيب لافتين. تحت إمرة السلطة المركزية، اتسمت الأجهزة المدنية والعسكرية والدينية بالكفاءة والنجاعة، موازيةً في ذلك أبرز الإمبراطوريات الإسلامية. وتمتع الملك بسلطة مطلقة، موظفًا هذه القوة في تجميع ثروات ضخمة وإنفاقها على تحقيق مظاهر العظمة والجلال في قصره.

في الختام، تميزت إدارة المغول في الهند بالقوة والتنظيم الدقيق والفاعلية، على الرغم من مواجهتها لبعض التحديات مثل الفساد والظلم من قبل بعض الحكام. ومع رحيل السلطان أورنغ زيب، تفككت الإمبراطورية المغولية، مما أفسح المجال لفترة من الفوضى والتشرذم، إيذانًا بنهاية عصرهم الذهبي المفعم بالعظمة والإزدهار في تلك الربوع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى