
أميرة بلا عرش
جلست روضة أمام النافذة تتأمل قطرات المطر وهي تنساب على الزجاج، كأنها دموع السماء التي تحكي قصة انتظار طويل. ثلاثون عاماً مرت من عمرها كالبرق، وما زالت تحمل في قلبها حلماً جميلاً بحب حقيقي يفهم روحها قبل جسدها، ويقدر عقلها قبل جمالها.
في صباح ذلك اليوم، استيقظت روضة على صوت هاتفها المحمول. كانت خالتها أم سعد تتصل بها كعادتها كل أسبوع.
“روضة حبيبتي، كيف حالك؟” قالت الخالة بصوت مليء بالحنان المخلوط بالقلق.
“الحمد لله يا خالتي، بخير.”
“استمعي يا ابنتي، لدي خبر جيد. ابن جارتنا أم خالد، تذكرينه؟ المهندس الذي يعمل في الخليج، عاد للوطن ويبحث عن زوجة مناسبة. أم خالد تسأل عنك.”
شعرت روضة بتلك النغزة المألوفة في قلبها، مزيج من الأمل والخوف. كم من مرة سمعت هذه الكلمات؟ وكم من مرة خاب أملها؟
“خالتي، أقدر اهتمامك، لكن تعرفين موقفي. أريد أن أتعرف على الشخص أولاً، أن أفهم طباعه وأخلاقه، لا أن أتزوجه لمجرد أنه مهندس أو يعمل في الخليج.”
تنهدت الخالة بصوت مسموع: “يا ابنتي، الزواج ليس حباً في المسلسلات. الحب يأتي بعد الزواج. المهم أن يكون الرجل صالحاً ويوفر لك حياة كريمة.”
“لكن يا خالتي، أريد رجلاً يحترم آرائي، يشاركني أحلامي، لا يتعامل معي كخادمة أو مجرد أداة للإنجاب. أريد شريكاً حقيقياً في الحياة.”
“الله يهديك يا روضة ، أنت معقدة الموضوع أكثر من اللازم. في النهاية، كلنا نتأقلم.”
أنهت روضة المكالمة وهي تشعر بثقل في صدرها. فتحت دفتر يومياتها القديم وبدأت تكتب:
“اللهم، أنت تعلم ما في قلبي. أنا لست معقدة كما يقولون، أنا فقط أؤمن أن الزواج رباط مقدس يجب أن يقوم على الاحترام المتبادل والحب الحقيقي. لست أطلب المستحيل، أطلب رجلاً يراني إنساناً كاملاً له عقل وروح ومشاعر، لا مجرد جسد أو خادمة أو آلة للإنجاب.”
في العمل، كانت روضة تشغل منصباً مهماً في شركة للاستشارات التربوية. زملاؤها يحترمونها لذكائها ومهنيتها، لكن حتى هناك، لم تسلم من التعليقات.
“روضة ، متى ستتزوجين؟” سألتها زميلتها سارة وهما في استراحة الغداء.

“عندما يقدر الله ذلك.” أجابت روضة بهدوء.
“لكن ألا تخافين أن يفوتك القطار؟ أعني، الثلاثون عاماً ليست سناً صغيرة للزواج.”
نظرت روضة إلى سارة بحزن خفي: “سارة، أتعرفين كم من صديقاتي تزوجن في العشرينات خوفاً من ‘فوات القطار’؟ معظمهن الآن إما مطلقات أو يعشن في بيوت مليئة بالمشاكل لأنهن اخترن الشخص الخطأ.”
“لكن على الأقل جربن.”
“التجربة في الزواج مكلفة يا سارة. أطفال، بيت، مشاكل نفسية… لا أريد أن أجرب، أريد أن أختار بحكمة.”
في طريق العودة للبيت، توقفت روضة عند المسجد للصلاة. بعد الصلاة، جلست في ركن هادئ ترفع يديها بالدعاء:
“اللهم، إن كان في الزواج خير لي في ديني ودنياي فيسره لي، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني. اللهم لا تجعلني أتزوج رجلاً ينقص من ديني أو يهين كرامتي. أنت تعلم أني أحبك وأخافك، فلا تضعني مع من لا يخافك.”
خرجت من المسجد وقلبها يشعر بسكينة غريبة. في الطريق، التقت بصديقتها القديمة هدى التي تزوجت منذ خمس سنوات.
“روضة ! كيف الحال؟” قالت هدى وهي تعانق صديقتها.
“الحمد لله. وأنت كيف حالك مع أحمد والأطفال؟”
انطفأ البريق في عيني هدى قليلاً: “الحمد لله، كله بخير. لكن صدقيني يا روضة ، أحياناً أحسدك على حريتك وهدوء بالك.”
“كيف؟”
“أحمد رجل طيب، لكنه لا يفهمني. يظن أن مسؤوليته تنتهي بإعطائي المصروف وتوفير البيت. أما مشاعري وأحلامي وطموحاتي، فهذا كله ترف لا يهمه. أشعر أحياناً أني مجرد مدبرة منزل ومربية أطفال، لا زوجة.”
شعرت روضة بألم صديقتها: “هل حاولت أن تتكلمي معه؟”
“كثيراً، لكنه يقول دائماً: ‘الحمد لله، أنت معززة مكرمة، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟’ لا يفهم أني أريد شريكاً في الحياة، لا مجرد رجل يعولني.”
عادت روضة لبيتها وهي تفكر في كلام هدى. فتحت كتاب الله وبدأت تقرأ: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.”
توقفت عند كلمة “لتسكنوا إليها”. السكون، الهدوء، الراحة النفسية. هذا ما تبحث عنه. ليس مجرد رجل يتزوجها، بل رجل تسكن إليه ويسكن إليها.
في صباح الجمعة التالية، بينما كانت روضة تتناول فطورها، زارتها عمتها أم فاطمة مع ابنتها المتزوجة حديثاً، فاطمة.
“روضة ، شوفي فاطمة كيف مبسوطة في بيتها الجديد!” قالت العمة بحماس.
ابتسمت فاطمة خجولاً: “الحمد لله، سعيد رجل محترم.”
سألت روضة صديقتها بلطف: “وكيف تشعرين معه؟ هل يفهمك ويقدرك؟”
أجابت فاطمة دون تردد: “أكثر مما توقعت يا روضة . سعيد يسألني عن رأيي في كل شيء، يشاركني في قرارات البيت، بل حتى يساعدني في أعمال المطبخ أحياناً. يقول لي دائماً: ‘أنت شريكتي في الحياة، ليس مجرد زوجتي.'”
شعرت روضة بدفء في قلبها: “ماشاء الله، ربنا يبارك لكما.”
بعد أن غادرت العمة وابنتها، جلست روضة تفكر. إذن، هناك رجال يفهمون معنى الشراكة الحقيقية في الزواج. هي لا تطلب المستحيل.
في ذلك المساء، اتصلت بها صديقتها ليلى من مدينة أخرى.
“روضة ، أريد أن أحكي لك قصة جميلة. أختي منى، تذكرينها؟ تزوجت الأسبوع الماضي.”
“ماشاء الله، ألف مبروك. لكن ألم تكن مثلي، ترفض كل المتقدمين؟”
“بالضبط! كانت تقول نفس كلامك، تريد رجلاً يفهم شخصيتها ويحترم آراءها. والأجمل أنها وجدته.”
“حقاً؟ كيف؟”
“التقيا في ندوة ثقافية. تحدثا كثيراً عن الكتب والأفكار، واكتشفا أن لديهما نفس الرؤية للحياة والزواج. العريس قال لها بوضوح: ‘أريد زوجة تكون صديقتي ورفيقة دربي، لا مجرد ربة بيت.’ وهي أحبت صراحته ووضوحه.”
شعرت روضة بفرحة حقيقية: “الله يبارك لها. هذا يعطيني أملاً.”
“روضة ، أعرف أن الجميع يقولون لك إنك صعبة المراس أو مثالية أكثر من اللازم، لكن أنا معجبة بصبرك وثباتك على مبادئك. الزواج قرار مصيري، ولا عيب في أن تختاري بحكمة.”
بعد إنهاء المكالمة، وقفت روضة أمام المرآة. رأت امرأة جميلة في الثلاثين، عيناها تحملان حكمة السنين وقوة الإيمان. لم تندم على خياراتها، رغم كل الضغوط.
كتبت في مذكرتها تلك الليلة:
“أحياناً أشعر بالوحدة، لكني أفضل أن أكون وحيدة مع كرامتي من أن أكون مع رجل لا يحترمني. الله يعلم أني لست ضد الزواج، أنا ضد الزواج الخطأ. أؤمن أن هناك رجلاً في مكان ما يفكر مثل تفكيري، يحلم بزوجة تكون شريكته الحقيقية في الحياة. وعندما يشاء الله أن نلتقي، سيكون ذلك اللقاء بداية قصة حب جميلة مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل.”
في صباح يوم الإثنين، بينما كانت روضة في مكتبها، دخلت عليها مديرتها السيدة أمل.
“روضة ، لدي خبر جميل. وزارة التربية اختارتك لتمثلي الشركة في مؤتمر دولي عن التربية الحديثة. المؤتمر سيكون الشهر القادم.”
فرحت روضة كثيراً: “شكراً لك أستاذة أمل، هذا شرف كبير.”
“تستحقين ذلك، أنت من أكثر الموظفات المتميزات لدينا. ولكن أريد أن أقول لك شيئاً كصديقة قبل أن أكون مديرة. أعرف أن الناس يضغطون عليك بشأن الزواج، لكن لا تستعجلي. أنا تزوجت في الخامسة والثلاثين، وكان زواجي من أسعد القرارات في حياتي لأنني اخترت بحكمة.”
شعرت روضة بالامتنان: “شكراً لك، كلامك يعني لي الكثير.”
بعد أسبوعين، بينما كانت روضة تحضر للمؤتمر، اتصلت بها أمها:
“روضة ، أريد أن أحكي لك شيئاً. اليوم جاءتني جارتنا أم يوسف تسألني: ‘لماذا روضة لا تتزوج؟ هل هناك مشكلة؟’ وأنا قلت لها بصراحة: ‘ابنتي ليس بها أي مشكلة، هي فقط تبحث عن الزوج المناسب، وهذا حقها.'”
“شكراً لك يا ماما.”
“روضة ، أريد أن تعرفي أنني فخورة بك. صحيح أني أحياناً أتمنى لو أنك تزوجت، لكن أحترم قرارك. أنت امرأة عاقلة، وأثق في اختيارك.”
بكت روضة من الفرح: “أحبك يا ماما.”
“وأنا أحبك أكثر. وأؤمن أن الله سيرزقك بالزوج الصالح في الوقت المناسب.”
في تلك الليلة، سجدت روضة في صلاة قيام الليل ودعت:
“اللهم، أشكرك على كل النعم التي أنعمت بها علي. أشكرك على الأهل الذين يحبونني، والعمل الذي أحبه، والصحة والعافية. اللهم، إن كنت قد كتبت لي زوجاً صالحاً، فعجل به في الوقت المناسب. وإن كنت قد كتبت لي البقاء وحيدة، فارضني بقضائك وقدرك.”
استيقظت في الصباح وقلبها مليء بالسكينة. نظرت إلى المرآة مرة أخرى، لكن هذه المرة رأت امرأة قوية، مؤمنة، واثقة من نفسها. رأت امرأة اختارت أن تحترم نفسها، حتى لو كان ثمن ذلك الانتظار.
خرجت من البيت متوجهة لعملها، وفي قلبها يقين أن الله لن يضيعها. وأن كل ما كتبه لها خير، سواء كان ذلك زواجاً مبنياً على الحب والاحترام، أو حياة كريمة مليئة بالعطاء والإنجاز.
لأن روضة تعلمت أن قيمة المرأة لا تقاس بحالتها الاجتماعية، بل بأخلاقها وإيمانها وإنجازها. وأن الزواج نعمة عندما يكون مع الشخص المناسب، وليس مجرد هدف يجب تحقيقه بأي ثمن.
ومشت روضة في طريقها، قوية، مؤمنة، جميلة بإيمانها وثقتها بالله، في انتظار ما كتبه الله لها من خير.